سورة التوبة - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)}
اعلم أنه تعالى لما قال في الآية الأولى: {أَلاَ تقاتلون قَوْماً} ذكر عقيبه سبعة أشياء كل واحد منها يوجب إقدامهم على القتال. ثم إنه تعالى في هذه الآية أعاد الأمر بالقتال وذكر في ذلك القتال خمسة أنواع من الفوائد، كل واحد منها يعظم موقعه إذا انفرد فكيف بها إذا اجتمعت؟ فأولها: قوله: {يُعَذّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} وفيه مباحث:
البحث الأول: أنه تعالى سمى ذلك عذاباً وهو حق فإنه تعالى يعذب الكافرين فإن شاء عجله في الدنيا وإن شاء أخره إلى الآخرة.
البحث الثاني: أن المراد من هذا التعذيب القتل تارة والأسر أخرى واغتنام الأموال ثالثاً، فيدخل فيه كل ما ذكرناه.
فإن قالوا: أليس أنه تعالى قال: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] فكيف قال هاهنا: {يُعَذّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ}.
قلنا: المراد من قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} عذاب الاستئصال، والمراد من قوله: {يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} عذاب القتل والحرب، والفرق بين البابين أن عذاب الاستئصال قد يتعدى إلى غير المذنب وإن كان في حقه سبباً لمزيد الثواب، أما عذاب القتل فالظاهر أنه يبقى مقصوراً على المذنب.
البحث الثالث: احتج أصحابنا على قولهم بأن فعل العبد مخلوق لله تعالى بقوله: {يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} فإن المراد من هذا التعذيب القتل والأسر وظاهر النص يدل على أن ذلك القتل والأسر فعل الله تعالى، إلا أنه تعالى يدخله في الوجود على أيدي العباد، وهو صريح قولنا ومذهبنا أجاب الجبائي عنه فقال: لو جاز أن يقال إنه تعالى يعذب الكفار بأيدي المؤمنين لجاز أن يقال: إنه يعذب المؤمنين بأيدي الكافرين، ولجاز أن يقال إنه يكذب أنبياءه على ألسنة الكفار ويلعن المؤمنين على ألسنتهم، لأنه تعالى خالق لذلك، فلما لم يجز ذلك عند المجبرة، علم أنه تعالى لم يخلق أعمال العباد وإنما نسب ما ذكرناه إلى نفسه على سبيل التوسع من حيث إنه حصل بأمره وألطافه، كما يضيف جميع الطاعات إليه بهذا التفسير، وأجاب أصحابنا عنه فقالوا: أما الذي ألزمتموه علينا فالأمر كذلك إلا أنا لا نقوله باللسان، كما أنا نعلم أنه تعالى هو الخالق لجميع الأجسام ثم إنا لا نقول يا خالق الأبوال والعذرات، ويا مكون الخنافس والديدان، فكذا هاهنا وأيضاً أنا توافقنا على أن الزنا واللواط وسائر القبائح إنما حصلت بأقدار الله تعالى وتيسيره، ثم لا يجوز أن يقال: يا مسهل الزنا واللواط، ويا دافع الموانع عنها، فكذا هنا، أما قوله إن المراد إذن الأقدار فنقول هذا صرف للكلام عن ظاهره، وذلك لا يجوز إلا لدليل قاهر، والدليل القاهر من جانبنا هاهنا، فإن الفعل لا يصدر إلا عند الداعية الحاصلة، وحصول تلك الداعية ليس إلا من الله تعالى.
وثانيها: قوله تعالى: {وَيُخْزِهِمْ} معناه: ما ينزل بهم من الذل والهوان حيث شاهدوا أنفسهم مقهورين في أيدي المؤمنين ذليلين مهينين.
قال الواحدي: قوله: {وَيُخْزِهِمْ} أي بعد قتلكم إياهم، وهذا يدل على أن هذا الإخزاء إنما وقع بهم في الآخرة، وهذا ضعيف لما بينا أن الإخزاء واقع في الدنيا.
وثالثها: قوله تعالى: {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} والمعنى أنه لما حصل الخزي لهم، بسبب كونهم مقهورين فقد حصل النصر للمسلمين بسبب كونهم قاهرين.
فإن قالوا: لما كان حصول ذلك الخزي مستلزماً لحصول هذا النصر، كان إفراده بالذكر عبثاً فنقول: ليس الأمل كذلك، لأنه من المحتمل أن يحصل الخزي لهم من جهة المؤمنين، إلا أن المؤمنين يحصل لهم آفة بسبب آخر فلما قال: {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} دل على أنهم ينتفعون بهذا النصر والفتح والظفر.
ورابعها: قوله: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} وقد ذكرنا أن خزاعة أسلموا، فأعانت قريش بني بكر عليهم حتى نكلوا بهم، فشفى الله صدورهم من بني بكر، ومن المعلوم أن من طال تأذيه من خصمه، ثم مكنه الله منه على أحسن الوجوه فإنه يعظم سروره به، ويصير ذلك سبباً لقوة النفس، وثبات العزيمة.
وخامسها: قوله: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}.
ولقائل أن يقول: قوله: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} معناه أنه يشفي من ألم الغيظ وهذا هو عين إذهاب الغيظ، فكان قوله: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} تكرار.
والجواب: أنه تعالى وعدهم بحصول هذا الفتح فكانوا في زحمة الانتظار، كما قيل الانتظار الموت الأحمر، فشفى صدورهم من زحمة الانتظار، وعلى هذا الوجه يظهر الفرق بين قوله: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} وبين قوله: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} فهذه هي المنافع الخمسة التي ذكرها الله تعالى في هذا القتال، وكلها ترجع إلى تسكين الدواعي الناشئة من القوة الغضبية، وهي التشفي ودرك الثأر وإزالة الغيظ، ولم يذكر تعالى فيها وجدان الأموال والفوز بالمطاعم والمشارب وذلك لأن العرب قوم جبلوا على الحمية والأنفة، فرغبهم في هذه المعاني لكونها لائقة بطباعهم، بقي هاهنا مباحث:
البحث الأول: أن هذه الأوصاف مناسبة لفتح مكة، لأن ذلك جرى في تلك الواقعة مشاكل لهذه الأحوال، ولهذا المعنى جاز أن يقال: الآية واردة فيه.
البحث الثاني: الآية دالة على المعجزة لأنه تعالى أخبر عن حصول هذه الأحوال، وقد وقعت موافقة لهذه الأخبار فيكون ذلك إخباراً عن الغيب، والإخبار عن الغيب معجز.
البحث الثالث: هذه الآية تدل على كون الصحابة مؤمنين في علم الله تعالى إيماناً حقيقياً. لأنها تدل على أن قلوبهم كانت مملوءة من الغضب، ومن الحمية لأجل الدين، ومن الرغبة الشديدة في علو دين الإسلام، وهذه الأحوال لا تحصل إلا في قلوب المؤمنين.
واعلم أن وصف الله لهم بذلك لا ينفي كونهم موصوفين بالرحمة والرأفة، فإنه تعالى قال في صفتهم {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54] وقال أيضاً: {أَشِدَّاء عَلَى الكفار رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
ثم قال: {وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَاءُ} قال الفراء والزجاج: هذا مذكور على سبيل الاستئناف ولا يمكن أن يكون جواباً لقوله: {قاتلوهم} لأن قوله: {وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَاءُ} لا يمكن جعله جزاء لمقاتلتهم مع الكفار. قالوا ونظيره: {فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ} [الشورى: 24] وتم الكلام هاهنا، ثم استأنف فقال: {وَيَمْحُ الله الباطل} [الشورى: 24] ومن الناس من قال يمكن جعل هذه التوبة جزاء لتلك المقاتلة، وبيانه من وجوه:
الأول: أنه تعالى لما أمرهم بالمقاتلة، فربما شق ذلك على بعضهم على ما ذهب إليه الأصم، فإذا أقدموا على المقاتلة صار ذلك العمل جارياً مجرى التوبة عن تلك الكراهية.
الثاني: أن حصول النصرة والظفر إنعام عظيم، والعبد إذا شاهد توالي نعم الله لم يبعد أن يصير ذلك داعياً له إلى التوبة من جميع الذنوب.
الثالث: أنه إذا حصل النصر والظفر والفتح وكثرت الأموال والنعم وكانت لذاته تطلب بالطريق الحرام، فإن عند حصول المال والجاه يمكن تحصيلها بطريق حلال، فيصير كثرة المال والجاه داعياً إلى التوبة من هذه الوجوه.
الرابع: قال بعضهم إن النفس شديدة الميل إلى الدنيا ولذاتها، فإذا انفتحت أبواب الدنيا على الإنسان وأراد الله به خيراً، عرف أن لذاتها حقيرة يسيرة، فحينئذ تصير الدنيا حقيرة في عينه، فيصير ذلك سبباً لانقباض النفس عن الدنيا، وهذا هو أحد الوجوه المذكورة في تفسير قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام: {هَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى} [ص: 35]. يعني أن بعد حصول هذا الملك لا يبقى للنفس اشتغال بطلب الدنيا، ثم يعرف أن عند حصول هذا الملك الذي هو أعظم الممالك لا حاصل للدنيا ولا فائدة في لذاتها وشهواتها، فحينئذ يعرض القلب عن الدنيا ولا يقيم لها وزناً، فثبت أن حصول المقاتلة يفضي إلى المنافع الخمسة المذكورة وتلك المنافع حصولها يوجب التوبة، فكانت التوبة متعلقة بتلك المقاتلة، وإنما قال: {على مَن يَشَاءُ} لأن وجدان الدنيا وانفتاح أبوابها على الإنسان قد يصير سبباً لانقباض القلب عن الدنيا وذلك في حق من أراد به الخير، وقد يصير سبباً لاستغراق الإنسان فيها وتهالكه عليها وانقطاعه بسببها عن سبيل الله، فلما اختلف الأمر على الوجه الذي ذكرناه قال: {وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَاء}.
ثم قال: {والله عَلِيمٌ} أي بكل ما يعمل ويفعل في ملكه وملكوته {حَكِيمٌ} مصيب في أحكامه وأفعاله.


{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)}
اعلم أن الآيات المتقدمة كانت مرغبة في الجهاد، والمقصود من هذه الآية مزيد بيان في الترغيب، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الفراء: قوله: {أَمْ} من الاستفهام الذي يتوسط الكلام، ولو أريد به الابتداء لكان بالألف أو بها.
المسألة الثانية: قال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة وأصله من الولوج فالداخل الذي يكون في القوم وليس منهم وليجة، فالوليجة فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل قال الواحدي: يقال هو وليجتي وهم وليجتي للواحد والجمع.
المسألة الثالثة: المقصود من الآية بيان أن المكلف في هذه الواقعة لا يتخلص عن العقاب إلا عند حصول أمرين: الأول: أن يعلم الله الذين جاهدوا منكم، وذكر العلم والمراد منه المعلوم، والمراد أن يصدر الجهاد عنهم إلا أنه إنما كان وجود الشيء يلزمه معلوم الوجود عند الله، لا جرم جعل علم الله بوجوده كناية عن وجوده، واحتج هشام بن الحكم بهذه الآية على أنه تعالى لا يعلم الشيء إلا حال وجوده.
واعلم أن ظاهر الآية وإن كان يوهم ما ذكره إلا أن المقصود ما بيناه.
والثاني: قوله: {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً} والمقصود من ذكر هذا الشرط أن المجاهد قد يجاهد ولا يكون مخلصاً بل يكون منافقاً، باطنه خلاف ظاهره، وهو الذي يتخذ الوليجة من دون الله ورسوله والمؤمنين، فبين تعالى أنه لا يتركهم إلا إذا أتوا بالجهاد مع الإخلاص خالياً عن النفاق والرياء والتودد إلى الكفار وإبطال ما يخالف طريقة الدين والمقصود بيان أنه ليس الغرض من إيجاب القتال نفس القتال فقط، بل الغرض أن يؤتى به انقياداً لأمر الله عز وجل ولحكمه وتكليفه، ليظهر به بذل النفس والمال في طلب رضوان الله تعالى فحينئذ يحصل به الانتفاع، وأما الإقدام على القتال لسائر الأغراض فذاك مما لا يفيد أصلاً.
ثم قال: {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي عالم بنياتهم وأغراضهم مطلع عليها لا يخفى عليه منها شيء، فيجب على الإنسان أن يبالغ في أمر النية ورعاية القلب.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الله لا يرضى أن يكون الباطن خلاف الظاهر، وإنما يريد الله من خلقه الاستقامة كما قال: {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} [فصلت: 30 الأحقاف: 13] قال: ولما فرض القتال تبين المنافق من غيره وتميز من يوالي المؤمنين ممن يعاديهم.


{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى بدأ السورة بذكر البراءة عن الكفار وبالغ في إيجاب ذلك وذكر من أنواع فضائحهم وقبائهم ما يوجب تلك البراءة، ثم إنه تعالى حكى عنهم شبهاً احتجوا بها في أن هذه البراءة غير جائزة وأنه يجب أن تكون المخالطة والمناصرة حاصلة، فأولها ما ذكره في هذه الآية، وذلك أنهم موصوفون بصفات حميدة وخصال مرضية وهي توجب مخالطتهم ومعاونتهم ومناصرتهم، ومن جملة تلك الصفات كونهم عامرين للمسجد الحرام قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما أسر العباس يوم بدر، أقبل عليه المسلمون فعيروه بكفره بالله وقطيعة الرحم، وأغلظ له علي. وقال: ألكم محاسن فقال: نعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني، فأنزل الله تعالى رداً على العباس {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله}.
المسألة الثانية: عمارة المساجد قسمان: إما بلزومها وكثرة إتيانها يقال: فلان يعمر مجلس فلان إذا كثر غشيانه إياه، وإما بالعمارة المعروفة في البناء، فإن كان المراد هو الثاني، كان المعنى أنه ليس للكافر أن يقدم على مرمة المساجد وإنما لم يجز له ذلك لأن المسجد موضع العبادة فيجب أن يكون معظماً والكافر يهينه ولا يعظمه، وأيضاً الكافر نجس في الحكم، لقوله تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28] وتطهير المساجد واجب لقوله تعالى: {أَن طَهّرَا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ} [البقرة: 125] وأيضاً الكافر لا يحترز من النجاسات، فدخوله في المسجد تلويث للمسجد، وذلك قد يؤدي إلى فساد عبادة المسلمين. وأيضاً إقدامه على مرمة المسجد يجري مجرى الإنعام على المسلمين، ولا يجوز أن يصير الكافر صاحب المنة على المسلمين.
المسألة الثالثة: قرأ ابن كثير وأبو عمرو {أَن يَعْمُرُواْ مساجد الله} على الواحد، والباقون {مساجد الله} على الجمع حجة ابن كثير وأبي عمرو وقوله: {عمارة المسجد الحرام} [التوبة: 19] وحجة من قرأ على لفظ الجمع وجوه:
الأول: أن يراد المسجد الحرام.
وإنما قيل: مساجد لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها، فعامره كعامر جميع المساجد.
والثاني: أن يقال: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللهِ} معناه: ما كان للمشركين أن يعمروا شيئاً من مساجد الله، وإذا كان الأمر كذلك، فأولى أن لا يمكنوا من عمارة المسجد الحرام الذي هو أشرف المساجد وأعظمها.
الثالث: قال الفراء: العرب قد يضعون الواحد مكان الجمع والجمع مكان الواحد أما وضع الواحد مكان الجمع ففي قولهم فلان كثير الدرهم وأما وضع الجمع مكان الواحد ففي قولهم فلان يجالس الملوك مع أنه لا يجلس إلا مع ملك واحد.
الرابع: أن المسجد موضع السجود، فكل بقعة من المسجد الحرام فهي مسجد.
المسألة الرابعة: قال الواحدي: دلت على أن الكفار ممنوعون من عمارة مسجد من مساجد المسلمين، ولو أوصى بها لم تقبل وصيته ويمنع عن دخول المساجد، وإن دخل بغير إذن مسلم استحق التعزير، وإن دخل بإذن لم يعزر، والأولى تعظيم المساجد، ومنعهم منها، وقد أنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف في المسجد، وهم كفار وشد ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد الحرام وهو كافر.
أما قوله تعالى: {شاهدين على أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ} قال الزجاج: قوله: {شاهدين} حال والمعنى ما كان لهم أن يعمروا المساجد حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر، وذكروا في تفسير هذه الشهادة وجوها: الأول: وهو الأصح أنهم أقروا على أنفسهم بعبادة الأوثان وتكذيب القرآن وإنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وكل ذلك كفر، فمن يشهد على نفسه بكل هذه الأشياء فقد شهد على نفسه بما هو كفر في نفس الأمر، وليس المراد أنهم شهدوا على أنفسهم بأنهم كافرين الثاني: قال السدي: شهادتهم على أنفسهم بالكفر، هو أن النصراني إذا قيل له من أنت فيقول: نصراني واليهودي يقول يهودي وعابد الوثن يقول: أنا عابد الوثن، وهذا الوجه إنما يتقرر بما ذكرناه في الوجه الأول.
الثالث: أن الغلاة منهم كانوا يقولون كفرنا بدين محمد وبالقرآن فلعل المراد ذلك.
الرابع: أنهم كانوا يطوفون عراة يقولون لا نطوف عليها بثياب عصينا الله فيها، وكلما طافوا شوطاً سجدوا للأصنام، فهذا هو شهادتهم على أنفسهم بالشرك.
الخامس: أنهم كانوا يقولون لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك.
السادس: نقل عن ابن عباس: أنه قال: المراد أنهم يشهدون على الرسول بالكفر. قال: وإنما جاز هذا التفسير لقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] قال القاضي: هذا الوجه عدول عن الحقيقة، وإنما يجوز المصير إليه لو تعذر إجراء اللفظ على حقيقته.
أما لما بينا أن ذلك جائز لم يجز المصير إلى هذا المجاز.
وأقول: لو قرأ أحد من السلف {شاهدين على أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ} من قولك: زيد نفيس وعمرو أنفس منه، لصح هذا الوجه من عدول فيه عن الظاهر.
ثم قال: {أولئك حَبِطَتْ أعمالهم} والمراد منه: ما هو الفصل الحق في هذا الكتاب، وهو أنه إن كان قد صدر عنهم عمل من أعمال البر، مثل إكرام الوالدين، وبناء الرباطات، وإطعام الجائع، وإكرام الضيف فكل ذلك باطل، لأن عقاب كفرهم زائد على ثواب هذه الاْشياء فلا يبقى لشيء منها أثر في استحقاق الثواب والتعظيم مع الكفر.
وأما الكلام في الأحباط فقد تقدم في هذا الكتاب مراراً فلا نعيده.
ثم قال: {وَفِى النار هُمْ خالدون} وهو إشارة إلى كونهم مخلدين في النار.
واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الفاسق من أهل الصلاة لا يبقى مخلداً في النار من وجهين:
الأول: أن قوله: {وَفِى النار هُمْ خالدون} يفيد الحصر، أي هم فيها خالدون لا غيرهم، ولما كان هذا الكلام وارد في حق الكفار، ثبت أن الخلود لا يحصل إلا للكافر.
الثاني: أنه تعالى جعل الخلود في النار جزاء للكفار على كفرهم، ولو كان هذا الحكم ثابتاً لغير الله لما صح تهديد الكافر به، ثم إنه تعالى لما بين أن الكافر ليس له أن يشتغل بعمارة المسجد، بين أن المشتغل بهذا العمل يجب أن يكون موصوفاً بصفات أربعة:
الصفة الأولى: قوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله مَنْ ءامَنَ بالله واليوم الأخر} وإنما قلنا إنه لابد من الإيمان بالله لأن المسجد عبارة عن الموضع الذي يعبد الله فيه، فما لم يكن مؤمناً بالله، امتنع أن يبني موضعاً يعبد الله فيه، وإنما قلنا إنه لابد من أن يكون مؤمناً بالله واليوم الآخر لأن الاشتغال بعبادة الله تعالى إنما تفيد في القيامة، فمن أنكر القيامة لم يعبد الله، ومن لم يعبد الله لم يبن بناء لعبادة الله تعالى.
فإن قيل: لم لم يذكر الإيمان برسول الله؟
قلنا فيه وجوه:
الأول: أن المشركين كانوا يقولون: إن محمداً إنما ادعى رسالة الله طلباً للرياسة والملك، فهاهنا ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر، وترك النبوة كأنه يقول مطلوبي من تبليغ الرسالة ليس إلا الإيمان بالمبدأ والمعاد، فذكر المقصود الأصلي وحذف ذكر النبوة تنبيهاً للكفار على أنه لا مطلوب له من الرسالة إلا هذا القدر.
الثاني: أنه لما ذكر الصلاة، والصلاة لا تتم إلا بالأذان والإقامة والتشهد، وهذه الأشياء مشتملة على ذكر النبوة كان ذلك كافياً.
الثالث: أنه ذكر الصلاة، والمفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق، ثم المعهود السابق من الصلاة من المسلمين ليس إلا الأعمال التي كان أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم، فكان ذكر الصلاة دليلاً على النبوة من هذا الوجه.
الصفة الثانية: قوله: {وأقام الصلاة} والسبب فيه أن المقصود الأعظم من بناء المساجد إقامة الصلوات، فالإنسان ما لم يكن مقراً بوجوب الصلوات امتنع أن يقدم على بناء المساجد.
الصفة الثالثة: قوله: {وآتى الزكاة}.
واعلم أن اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في عمارة المسجد كأنه يدل على أن المراد من عمارة المسجد الحضور فيه، وذلك لأن الإنسان إذا كان مقيماً للصلاة فإنه يحضر في المسجد فتحصل عمارة المسجد به، وإذا كان مؤتياً للزكاة فإنه يحضر في المسجد طوائف الفقراء والمساكين لطلب أخذ الزكاة فتحصل عمارة المسجد به.
وأما إذا حملنا العمارة على مصالح البناء فإيتاء الزكاة معتبر في هذا الباب أيضاً لأن إيتاء الزكاة واجب وبناء المسجد نافلة، والإنسان ما لم يفرغ عن الواجب لا يشتغل بالنافلة والظاهر أن الإنسان ما لم يكن مؤدياً للزكاة لم يشتغل ببناء المساجد.
والصفة الرابعة: قوله: {وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله} وفيه وجوه:
الأول: أن أبا بكر رضي الله عنه بنى في أول الإسلام على باب داره مسجداً وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن والكفار يؤذونه بسببه، فيحتمل أن يكون المراد هو تلك الحالة، يعني إنا وإن خاف الناس من بناء المسجد إلا أنه لا يلتفت إليهم ولا يخشاهم ولكنه يبني المسجد للخوف من الله تعالى.
الثاني: يحتمل أن يكون المراد منه أن يبني المسجد لا لأجل الرياء والسمعة وأن يقال إن فلاناً يبني مسجداً، ولكنه يبنيه لمجرد طلب رضوان الله تعالى ولمجرد تقوية دين الله.
فإن قيل: كيف قال: {وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله} والمؤمن قد يخاف الظلمة والمفسدين؟
قلنا: المراد من هذه الخشية الخوف والتقوى في باب الدين، وأن لا يختار على رضا الله رضا غيره.
اعلم أنه تعالى قال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله مَنْ ءَامَنَ بالله} أي من كان موصوفاً بهذه الصفات الأربعة وكلما وردت {إِنَّمَا} تفيد الحصر وفيه تنبيه على أن المسجد يجب صونه عن غير العبادة فيدخل فيه فضول الحديث وإصلاح مهمات الدنيا.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «يأتي في آخر الزمان أناس من أمتي يأتون المساجد يقعدون فيها حلقاً ذكرهم الدنيا وحب الدنيا لا تجالسوهم، فليس لله بهم حاجة» وفي الحديث: «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش» قال عليه الصلاة والسلام: قال الله تعالى: «إن بيوتي في الأرض المساجد وإن زواري فيها عمارها طوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحق على المزور أن يكرم زائره» وعنه عليه الصلاة والسلام: «من ألف المسجد ألفه الله تعالى» وعنه عليه الصلاة والسلام: «إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان» وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له ما دام في المسجد ضوؤه» وهذه الأحاديث نقلها صاحب الكشاف.
ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الأوصاف قال: {فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين} وفيه وجوه:
الأول: قال المفسرون: {عَسَى} من الله واجب لكونه متعالياً عن الشك والتردد.
الثاني: قال أبو مسلم: {عَسَى} هاهنا راجع إلى العباد وهو يفيد الرجاء فكان المعنى إن الذين يأتون بهذه الطاعات إنما يأتون بها على رجاء الفوز بالاهتداء لقوله تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة: 16] والتحقيق فيه أن العبد عند الإتيان بهذه الأعمال لا يقطع على الفوز بالثواب، لأنه يجوز على نفسه أنه قد أخل بقيد من القيود المعتبرة في حصول القبول.
والثالث: وهو أحسن الوجوه ما ذكره صاحب الكشاف وهو أن المراد منه تبعيد المشركين عن مواقف الاهتداء، وحسم أطماعهم في الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها، فإنه تعالى بين أن الذين آمنوا وضموا إلى إيمانهم العمل بالشرائع وضموا إليها الخشية من الله، فهؤلاء صار حصول الاهتداء لهم دائراً بين لعل وعسى فما بال هؤلاء المشركين يقطعون بأنهم مهتدون ويجزمون بفوزهم بالخير من عند الله تعالى وفي هذا الكلام ونحوه لطف بالمؤمنين في ترجيح الخشية على الرجاء.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8